إيميل «ما بعد داعش»

في إيميلاتنا المرسلة إلى مناصرينا، نحاول غالباً التركيز على فعل نودّ منهم القيام به. بيد أن أهم ما يمكنكم فعله في بعض الأحيان هو مجرد إطلاعهم على ما يحدث. فمناصروكم جزء من منظمتكم، وجزء أساسي من عملكم يتمثل في مساعدتهم على فهم قضيتكم. ويمكن أن يكون قراء إيميلكم أكبر من عدد قراء الإيميلات الإخبارية، والأهم من العدد أن هؤلاء يعرفونكم ويثقون بكم ويحبونكم.

لدي تفاؤل عميق بدأ قبل أكثر من ست سنوات، حين نزلنا إلى الشوارع لأول مرة. فالناس لا يزالون يطالبون بحقوقهم

عبد العزيز الحمزة

في عام 2017، كان التحالف الغربي يخوض حملة عسكرية تتبنى سياسة الأرض المحروقة ضد داعش. ركزت وسائل الإعلام على إعداد تقارير يومية عن الرقة، عاصمة ما يسمى بالدولة الإسلامية. لكن قلما نال عامة الناس في الرقة فرصة للحديث عما يشعرون به وما يعانون منه، وقد كان ذلك محبطاً للغاية.

في تلك اللحظة، كان من المقرر إصدار فيلم جديد بعنوان «مدينة الأشباح»، يركز على العمل الجبار الذي تقوم به مجموعة من النشطاء تدعى «الرقة تُذبح بصمت». طلبنا من عبد العزيز الحمزة، أحد مؤسسي المجموعة، كتابة إيميل إلى المناصرين لشرح الوضع في الرقة.

فيلم “مدينة الأشباح تحكي قصة الرقة تذبح بصمت
مدينة الأشباح – فيديو الإعلان الرسمي

كان الإيميل أطول بكثير من معظم الإيميلات التي نرسلها إلى مناصرينا، ولم يكن يطلب منهم القيام بأي فعل. كان الهدف مساعدة الناس على فهم محنة أهالي الرقة بشكل أفضل، والآمال التي ما زالوا يعقدونها على المستقبل. وما نزال نظن أن الإيميل كان أحد أقوى الإيميلات التي أرسلناها على الإطلاق.

عزيزتي آني،

الرقة هي المدينة التي ولدت فيها عام 1991، وهي مدينة منسية في سوريا. حتى أخبار الطقس على التلفزيون كانت تتجاهلنا. والآن، بعد أن أصبحت عاصمة للدولة الإسلامية، لم يعد اسم الرقة يفارق شفاه زعماء العالم.

الرقة هي المدينة التي ولدت فيها عام 1991، وهي مدينة منسية في سوريا. حتى أخبار الطقس على التلفزيون كانت تتجاهلنا. والآن، بعد أن أصبحت عاصمة للدولة الإسلامية، لم يعد اسم الرقة يفارق شفاه زعماء العالم.

بالنسبة لي، الرقة هي مدينة نشأتي مع أصدقائي وأقربائي. هي المدينة التي أتحدث بلكنتها، والتي أشتاق إليها الآن.  هناك ذهبت إلى مدرستي وقضيت طفولتي. الرقة مكان يعرف فيه الجميع بعضهم بعضاً. وإذا كنت لا تعرف شخصاً بشكل مباشر، فأنت تعرف أخاه. وإذا كنت لا تعرف أخاه، فأنت بكل تأكيد تعرف أحد أقاربه.

حين كبرت، كان الجميع يرغبون في مغادرة سوريا للعمل، غالباً إلى أماكن مثل دبي. ولكن السبب كان أن الحكومة تسيطر على 80% من الاقتصاد. نحن بلد غني بالنفط والغاز، وبالمواقع التاريخية والآثار والحضارة القديمة والسياحة وغير ذلك الكثير. لقد سئمنا من سيطرة الحكومة على جميع الأموال. حين انضممت إلى المظاهرات السلمية عام 2011، كنت مدفوعاً بإيمان عميق بحق الإنسان بحياة رغيدة في بلده.

كنا نعيش في حال رعب منذ عقود من الزمن. لم تكن لدينا حرية تعبير، وكانت مقولة «الحيطان إلها آذان» شائعة للغاية. كان الجواسيس منتشرين في كل مكان، لدرجة أن اعتقال هذا الجار أو ذاك لأسباب سياسية كان خبراً مألوفاً. وقد يؤدي قول كلمة واحدة ضد نظام الأسد إلى عقوبة تصل إلى 20-50 سنة في السجن أو القتل. لا يمكن لأحد تخيل هذه الظروف.

لكننا أدركنا عام 2011 أن الناس أقوى من الحكومة، وتمكن الشعب من كسر أغلال الخوف والنزول إلى الشارع رغم معرفته المسبقة بأنه قد يواجه الموت في أي لحظة.

معظم السوريين من خارج الرقة لما يفكروا بها أو يتحدثوا عنها حتى 4 آذار 2013، يوم استيقظنا على خبر أول مدينة محررة في سوريا. بعد نحو عامين من المظاهرات، تمكن الأهالي من طرد قوات نظام الأسد خارج المدينة، وأطلق السوريون لقب «عاصمة التحرير» على مدينة الرقة.

تمكن السكان المدنيون من إدارة المدينة لأول مرة منذ 40 عاماً، وتم تأسيس مجلس محلي، وعشرات منظمات المجتمع المدني. كنت جزءاً من اتحاد الطلاب السوريين الأحرار، وافتتحنا الجامعة مرة أخرى. ووصل الكثيرون ممن فروا من اضطهاد نظام الأسد إلى الرقة، وتمكنوا من عيش حياة طبيعية. كانت لمنظمات المجتمع المدني سلطة أكبر من الجماعات المسلحة، هكذا ينبغي أن يكون الحال.

ولكن بعد ذلك جاءت داعش.

في البداية أتوا بأعداد صغيرة، وكنا نتظاهر ضدهم. ثم جاؤوا بأسلحة ثقيلة مسروقة من العراق، ولم يكن لدى المدافعين عن الرقة وسائل كافية لإيقافهم. ناشد مقاتلو مدينتنا المجتمع الدولي لتقديم مزيد من الدعم، ولكن هذا الدعم لم يصل، واستولت داعش على زمام الأمور.

لكن الرقاويين لم يقبلوا داعش قط.

فأقل من 1% من السكان المحليين انضموا لداعش، ما يعني أن معظمهم ضد التنظيم، رغم عدم قدرتهم على إظهار ذلك، أو التعبير عن ذلك، وإلا سيتم اعتقالهم أو قتلهم. يرزح الأهالي تحت حكم داعش منذ سنوات، لكنهم مختبئون في بيوتهم. وهذا يعني أنهم بلا وظائف ورواتب. في حال انضموا إلى التنظيم سيحصلون على المال والسيارات – وحتى الجنس – لكن الرقاويين ما زالوا يرفضون ذلك. هذا الرفض الصامت يعتبر أحد أهم أشكال المقاومة.

في نيسان 2014 أنشأت مع عدد قليل من أصدقائي منظمة «الرقة تُذبح بصمت» لمواجهة دعاية داعش.

بدأنا بتسريب صور ولقطات سرية من الرقة، ونشرناها على حساباتنا في مواقع التواصل الاجتماعي، موضّحين كذب ادعاءات داعش عن مثالية الأوضاع في المدينة. كما قمنا بكتابة شعارات مناهضة لداعش على جدران مدينتنا، ونشرنا مجلتنا الساخرة من دعاية التنظيم. لم يعجبهم ذلك وبدأوا بمطاردتنا.

هرب العديد منا من الرقة آنذاك، لكن داعش ردت باستهداف عائلاتنا. وقاموا بنشر فيديو دعائي لإعدام والد صديقي حمود موسى أحد مؤسسي «الرقة تُذبح بصمت». كان ذلك من أشد الأشياء التي اضطررت لمشاهدتها وحشية، لكن هذا لم يوقفنا. إذ يستمر زملاؤنا المجهولون في الرقة حتى يومنا هذا في التقاط صور ومعلومات تنشرها أكبر الشبكات الإعلامية في العالم. وقد تم بث الصور والفيديوهات التي التقطناها من قلب عاصمة داعش على قناة بي بي سي، وسي إن إن، وقنوات أخرى.

لكن التهديد الذي يتعرض له المدنيون في مدينتي اليوم ليس من داعش فحسب.

لقد بدأت الولايات المتحدة وحلفاؤها بقصف الرقة والمنطقة المحيطة بها بلا هوادة. ومنذ بداية العام، أودت هذه الغارات الجوية بحياة عدد من المدنيين يفوق عدد جميع قتلى داعش. ويعود انتهاج سياسة «الأرض المحروقة» هذه إلى أنهم يريدون هزيمة داعش عسكرياً في أقرب وقت ممكن. لكنهم لا يفكرون في اليوم التالي لهزيمة داعش.

في الأسابيع والأشهر المقبلة، حين تُطرد داعش من أراضيها، سيسأل الناس من سيتولى زمام الأمور. لقد تسببت القوات الكردية المدعومة من الغرب بتشريد الناس وإحراق منازلهم. ومن الصعب رؤية السكان المحليين يستقبلونها سواءً في المدينة أو في البلدات المجاورة.

ثم هناك شائعات تفيد بأن هذه المناطق سيتم تسليمها للأسد. وهذا هو السيناريو الأسوأ.

سيتم اعتقال وقتل ما لا يحصى من الناس. ستحدث مذبحة. والأسوأ أنها ستكون خطوة نحو فوضى عارمة.  فالأسد هو المسؤول الأول عن هذا التطرف، ولولا طريقة تعامله مع شعبه لما انجرّ الكثيرون إلى التنظيمات المتطرفة. كل سوري لديه أخ أو صديق أو جار أو قريب قُتل على يد الأسد.

أنا شخص استجوبني عناصر داعش عدة مرات، وقتلوا الكثير من أصدقائي، ومرة حاولوا اختطافي. ومع ذلك ما زلت أعتبر أن الأسد هو المشكلة الرئيسية في سوريا. هذه هي القضية التي ينبغي على العالم فهمها.

ورغم كل شيء أنا مفعم بالأمل.

لدي تفاؤل عميق بدأ قبل أكثر من ست سنوات، حين نزلنا إلى الشوارع لأول مرة. فالناس لا يزالون يطالبون بحقوقهم. أشعر بالأمل بمجرد النظر إلى الأهالي في المدن المختلفة وهم يتظاهرون كل يوم، كأهالي معرة النعمان الذين طردوا تنظيم القاعدة بمظاهراتهم.

لهذا السبب لا يزال لدي أمل. لا يزال هناك ملايين يؤمنون بالثورة. لا أقصد فقط من يقاومون الأسد، ولكن من يقاومون كافة الجماعات التي تنتهك حقوقنا. كل ذلك يجعلني أؤمن بأننا سننعم يوماً ما بالديمقراطية وببلد موحد يتاح للناس فيه الحصول على وظائف في اقتصاد مزدهر.

حين يسألني أناس من خارج البلاد عما يجب فعله بشأن الرقة أو سوريا، هذا ما أقوله لهم: ساعدونا في تأسيس حكومة تمثلنا جميعاً، تساعدنا على دحر التطرف والسماح للرقاويين وغيرهم من السوريين بالعودة إلى ديارهم.

لا توجد وسيلة أخرى.

تفضلوا بقبول فائق احترامي،

عزيز

عزيز عبد العزيز الحمزة أحد مؤسسي «الرقة تُذبح بصمت». في عام 2015، منحت لجنة حماية الصحفيين المجموعة على جائزة حرية الصحافة الدولية المرموقة بسبب تغطيتها الشجاعة.

صدر فيلم مؤثر للغاية عن المجموعة بعنوان «مدينة الأشباح»، أخرجه المرشح لجائزة الأوسكار ماثيو هاينمان، وهو متوافر في دور السينما وعلى الإنترنت. وقد حصل الفيلم على تقييم 5 نجوم من صحيفة الغارديان، التي قالت إنه «قد يكون الوثائقي الأكثر واقعية عن سوريا». يرجى الاطلاع على تواريخ عرضه في الولايات المتحدة وبريطانيا. كما يتوفر الفيلم عند الطلب في بريطانيا وأيرلندا على منصة آي تيونز وقناة كورزون هوم سينما للأفلام المستقلة. وسيتوفر فيلم «مدينة الأشباح» أيضاً في الولايات المتحدة ومعظم البلدان على خدمة أمازون برايم اعتباراً من 13 تشرين الأول 2017.

إذا كنت ترغب في إرسال رسالة دعم إلى عزيز وفريق الرقة تُذبح بصمت، فيرجى الرد على هذا الإيميل وسنقوم نحن بإيصالها إليهم.